بقلم : محمّد صدِّيق الجاوي
هناك اتجهان في هذه المسألة، أي في مسألة صوم يوم عرفة، هل هذا الصوم مرتبط بالزمان أم بالمكان؟ وهذان الاتجهان هما :
الاتجاه الأول: وهو ما اعتبره بعض العلماء مثل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وهو أن العبرة برؤية أهل كل بلد مطلقا ولا التفات إلى اليوم الذي يجتمع الناس فيه بعرفة فإنما يشرع الصيام في اليوم التاسع من ذي الحجة بحسب كل بلد ولو لم يوافق اليوم الذي يجتمع الناس فيه بعرفة. وبالإختصار : صوم يوم عرفة مرتبط بالزمان لا بالمكان.
الاتجاه الثاني: وهو ما يقوله بعض العلماء مثل اللجنة الدائمة التي ترى أن العبرة في صوم يوم عرفة هو صيام الذي يجتمع الناس فيه بعرفة، والتي اعتبرت ظاهر الإضافة في النص، وإلى المعنى الذي شرع من أجله الصوم ورأت أن هذه المعاني أخص من اعتبار الرؤية في سائر الأحكام، والخاص يحمل معنى زائدا على العموم. وبالإختصار : صوم يوم عرفة مرتبط بالمكان لا بالزمان.
والذي أراه في هذه النازلة ، أن صوم يوم عرفة ليس مرتبطا بالزمان فقط، وليس مرتبطا بالمكان فقط، بل صوم يوم عرفة مرتبط بهذه الأمور الثلاثة جميعا : بزمان ومكان وفعل. الزمان هو التاسع من ذي الحجة.والمكان هو جبل عرفات.والفعل هو وقوف الحجاج في عرفات.
وأما الدليل على ارتباط صوم يوم عرفة بالزمان فقد ورد في الحديث الذي يدل على أن النبيﷺ كان يربط صوم يوم عرفة بالزمان وهو التاسع من ذي الحجة. روى الإمام النسائي بسند صحيح عن بعض أزواج النبيﷺ: «أن رسول اللهﷺ كان يصوم تسعا من ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر، وخَمِيسَيْن ».رواه النسائي في سنن النسائي: كتاب الصيام: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر…: (4/ 220). قال الخرشي في شرحه لمختصر خليل عند قوله (…وعرفة وعاشوراء…): “ولم يرد بعرفة موضع الوقوف؛ بل أراد به زمنه وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وأراد بعاشوراء اليوم العاشر من المحرم”. (شرح مختصر خليل للخرشي ج 2 ص 234).
( https://islamanar.com/araffa-day/)
وأما الدليل على ارتباط صوم يوم عرفة بالمكان فهو واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ” رواه مسلم 1162. قالت اللجنة الدائمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ » فهو نصّ في إضافة الصوم إلى اليوم ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم « صِيَامُ يَوْمِ التَّاسِعُ »، مما يدل على أن المعتبر في صوم يوم عرفة هو اليوم الذي يجتمع الناس فيه بعرفة، وليس اليوم التاسع من ذي الحجة. ولذلك من صام يوم التاسع من ذي الحجة ولم يكن يوافق اليوم الذي يجتمع الناس فيه بعرفة فإنه حينئذ لم يصم يوم عرفة الذي جاء النص بالحث عليه.
(https://al-maktaba.org/book/31616/43864)
وأما الدليل على ارتباط صوم يوم عرفة بالفعل، أي بوقوف الحجاج في عرفات، فهو الأحاديث الآتية :
ألأول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِيْ يُعرِّفُ النَّاسُ فِيْهِ) قال الإمام البيهقي: هذا مرسل جيد ، أخرجه أبو داود في المراسيل) سنن البيهقي 5/176.
الثاني : وروى الإمام البيهقي أيضاً بإسناده عن ابن جريح قال 🙁 قلت لعطاء : رجل حج أول ما حج فأخطأ الناس بيوم النحر أيجزىء عنه ، قال : نعم إي لعمري إنها لتجزيء عنه . قال : و أحسبه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فطركم يوم تفطرون ، وأضحاكم يوم تضحون . و أراه قال : وَعَرَفَةُ يَوْمَ تُعَرِّفُوْنَ) سنن البيهقي 5/176
الثالث : وفي رواية للشافعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَعَرَفَةُ يَوْمَ يُعَرِّفُوْنَ ) مغني المحتاج 1/595
فهذه الأحاديث صريحة في أن صوم يوم عرفة مرتبط بالفعل, أي بوقوف الحجاج في عرفات. أنظر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِيْ يُعرِّفُ النَّاسُ فِيْهِ، وَعَرَفَةُ يَوْمَ تُعَرِّفُوْنَ، وَعَرَفَةُ يَوْمَ يُعَرِّفُوْنَ، فهو واضح أن صوم يوم عرفة مرتبط بوقوف الحجاج في عرفة.
وبناءً على ذلك، والذي أراه وأرجحه هو من يقول : صوم يوم عرفة مرتبط بالأمور الثلاثة جميعا : بزمان ومكان وفعل، وهو أقرب الى الاتجاه الثاني الذي يقول إن العبرة في صوم يوم عرفة هو صيام الذي يجتمع الناس فيه بعرفة حسب رؤية المسلمين جميعا في الدنيا دون اعتبار اختلاف المطالع على الوجه العموم، وحسب رؤية أمير مكة على الوجه الخصوص كما في سنن أبي داود برقم 2338 عن حسين بن الحارث الجدلي ، وليس الصيام في اليوم التاسع من ذي الحجة حسب رؤية أهل كل بلد باعتبار اختلاف المطالع. والله تعالى أعلم.
جوكجاكارتا، 11 ذي الحجة 1444 الموافق 29 يونيو 2023
محمّد صدِّيق الجاوي